نهضةُ الإمام الحسينِ (عليه السلام) ثورةٌ ضدّ العُنْف
مواقفُ متخاذلةٌ من ثورةِ الإمام الحسينِ (عليه السّلام)
تُعدّ واقعة الطفّ أعظم حدث وقع بعد رحيل النبيّ حيث إنّه أيقظ الضمائر وحرّك العقول وهزّ القلوب ونقل الاُمّة مِن حالة السبات إلى حالة اليقظة ومِن وطأة الذلّ إلى مراقي العزّ ومِن الخمول إلى الوعي والفكر.
نعم لقد هزّت ثورة الإمام الحسين علیه السلام السلميّة عروش الطغاة وزلزلت الأرض تحت أقدامهم، وأقضّت مضاجعهم، فراحوا يلتمسون كلّ ما من شأنه أنْ يغيّر مسيرها أو يشوّه أهدافها، أو يطمس معالمها، أويمحو آثارها، فجيّشوا ـ منذ انطلاقتها الأولى وإلى يومنا هذا ـ جلاوزتهم لمحاربة كلّ من يذكر أو يذكّر بأحداث كربلاء وما جرى فيها من فجائع عظمى، ودواهي كبرى، يندى لها جَبين البشريّة، كما جنّدوا أقلامهم للتحريف والتزييف والتلاعب بالحديث النبويّ متناً ومضموناً ودلالةً، حتّى قالوا: إنّ الحسين خرج على إمام زمانه، وقالوا: إنّه قتل بسيف جدّه، وغير ذلك ممّا سنقف عليه من خلال استعراض أربعة نماذج ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ وهي كالتالي:
النموذجُ الأوّلُ: الحارث الكنديّ المعروف بشريح القاضي [ ت 79 هـ ]
وقف شريح القاضي إلى جانب السلطة الأمويّة طوال فترة سيطرتها على الكوفة ومن البديهيّ أنّ دخوله البلاط الأمويّ ووقوفه إلى جانب ابن زياد فيه دلالة واضحة على اعترافه بمشروعيّة تولي يزيد للسلطة، كما يدلّ على عدم اعترافه بمشروعيّة حركة الإمام الحسين علیه السلام.
وقد إشتهر أنّ ابن زياد استطاع أنْ ينتزع من شريح القاضي فتواه المعروفة بمشروعيّة قتل الإمام الحسين علیه السلام، إلّا أنّ هذه الفتوى لم يُذكر لها نصّ تأريخيّ يصرّح بنسبتها إليه؛ نعم يؤيّد صدورها موافقته ابنَ زياد طوال فترة تسلّطه على الكوفة، وشهادته على حجر بن عديّ التي أدّت إلى مقتله، وشهادته أمام عشيرة هاني بن عروة بأنّه حيّ ممّا يعني أنّه بخير فرجعت عشيرته فقتله ابن زياد.
النقض على شريح القاضي :
أوّلاً: إنّ القرآن الكريم نطق في فضل الإمام الحسين× في آيات عديدة منها آية المودّة ، وآية التطهير ، وآية المباهلة وغيرها ، كما بيّن رسول الله في موارد كثيرة منزلة الإمام الحسين علیه السلام حيث قال: ( حُسَيْنٌ مِنيّ وَأنَا مِنْ حُسَيْن)، وقال: (أحَبَّ اللهُ مَنْ أحَبَّ حُسَيْنَاً) ويقول عنه وعن أخيه الإمام الحسن: ( الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ إمَامَانِ قَامَا أوْ قَعَدَاً ) من هنا يتّضح أنّ وقوف شريح إلى جانب ابن زياد غير مبرّر شرعاً ؛بل فيه مخالفة صريحة لنصوص القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة.
ثانياً: لقد كشف الإمام الحسين علیه السلام زيف هؤلاء الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، حيث بيّن حقيقة يزيد بن معاوية وأنّه أبعد شيءٍ عن منصب خلافة المسلمين: رُوي أنّه كَتَبَ يَزِيدُ إِلَى الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَهْلِهَا وَ خَاصَّةً عَلَى الْحُسَيْنِ علیه السلام وَ يَقُولُ إِنْ أَبَى عَلَيْكَ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَ ابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ فَأَحْضَرَ الْوَلِيدُ مَرْوَانَ وَ اسْتَشَارَهُ فِي أَمْرِ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَقْبَلُ وَ لَوْ كُنْتُ مَكَانَكَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَيْتَنِي لَمْ أَكُ شَيْئاً مَذْكُوراً.
ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ علیه السلام فَجَاءَهُ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ مَوَالِيهِ وَسَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَغَضِبَ الْحُسَيْنُ علیه السلام ثُمَّ قَالَ: وَيْلِي عَلَيْكَ يَا ابْنَ الزَّرْقَاءِ أَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِ عُنُقِي كَذَبْتَ وَ اللَّهِ وَ أَثِمْتَ.
ثُمَّ َقَالَ علیه السلام: إِنَّا أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَ مَعْدِنُ الرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ وَ بِنَا فَتَحَ اللَّهُ وَ بِنَا خَتَمَ اللَّهُ وَ يَزِيدُ رَجُلٌ فَاسِقٌ شَارِبُ الْخَمْرِ قَاتِلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ وَ مِثْلِي لَا يُبَايِعُ مِثْلَهُ وَ لَكِنْ نُصْبِحُ وَ تُصْبِحُونَ وَ نَنْظُرُ وَ تَنْظُرُونَ أَيُّنَا أَحَقُّ بِالْبَيْعَةِ وَ الْخِلَافَةِ ثُمَّ خَرَجَ علیه السلام.
ثالثاً: كما كشف علیه السلام زيف تلكم المواقف المتخاذلة بمناصرتها للباطل والوقوف إلى جنب الظالم، وقد بيّن ذلك جليّاً في عدّة بياناتٍ منها في وصيّته المكتوبة لأخيه محمّد ابن الحنفيّة، ونصّها :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ وَ أَنَّ الْجَنَّةَ وَ النَّارَ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَ أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَ لَا بَطِراً وَ لَا مُفْسِداً وَ لَا ظَالِماً وَ إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیه السلام فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَ مَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنِي وَ بَيْنَ الْقَوْمِ بِالْحَقِّ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ وَ هَذِهِ وَصِيَّتِي يَا أَخِي إِلَيْكَ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ.
النموذج الثاني: أبو بكر ابن العربيّ المالكيّ [ ت 543هـ ]
زعم ابن العربيّ المالكيّ: أنّ الحسين علیه السلام قُتل بسيف جدّه.
ردّ قول أبي بكرٍ ابن العربيّ المالكيّ: وقد ردّه جملة من العلماء وأئمّة الحديث منكرين عليه قوله ومستقبحين عليه رأيه عادّين ذلك منه غضّاً من أهلِ البيت.
قال قاضي القضاة محمّد بن عليّ الشوكانيّ [ت 1255 هـ ]:
ولقد أفرط بعض أهل العلم كالكّراميّة ومن وافقهم حتّى حكموا بأنّ الحسين السبط ( رضي الله عنه وأرضاه ) باغٍ على الخمّير السكيّر الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية (لعنهم الله) فيا لله العجب من مقالات تقشعرّ منها الجلود! ويتصدّع من سماعها كلّ جلمود !.
وقال عبد الرّحمن ابن خلدون المغربيّ [ ت808 هـ ]:
وقد غَلَطَ القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الذي سمّاه: (العواصم والقواصم ) ما معناه: (إنّ الحسين قُتل بشرع جدّه) وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، قال: ومَنْ أعدل من الحسين علیه السلام في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟!.
وقال الحافظ جلال الدين بن أبي بكر السيوطيّ [ت 911 هـ]:
ومن مجازفات ابن العربيّ: أنّه أفتى بقتل رجل عاب لبس الأحمر لأنّه عاب لبسة ًلبسها رسول الله وقُتل بفتياه، كما ذكره في (المطامح ) وهذا تهوّرٌ غريب وإقدامٌ على سفك دماء المسلمين عجيب وسيخاصمه هذا القتيل غداً، ويبوء بالخزي من اعتدى.
وليس ذلك بأوّل عجرفة لهذا المفتي وجرأته وإقدامه فقد ألّف كتاباً في شأن مولانا الحسين (رضي الله عنه وكرم وجهه وأخزى شانئه ) زعم فيه أنّ يزيد قتله بحقًّ بسيف جدّه، نعوذ بالله من الخذلان.
وقال الشيخ أحمد أبن حجر الهيتميّ المكيّ [ ت 973 هـ]:
قول بعضهم: ( لا ملام على قتلة الحسين علیه السلام، لأنّهم إنّما قتلوه بسيف جدّه الآمر بسلّه على البغاة وقتالهم ) لا يعوّل عليه، لأنّ يزيد لم تنعقد بيعته عند الحسين وغيره ممّن لم يبايعوه، والمبايعون له مكرهون على البيعة - كما هو معروف - .
وقال أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسيّ [ت 1270 هـ]:
لهذا القاضي - يعني ابن العربي - حكم مشهور في أمر الحسين (رضي الله تعالى عنه ) ولعن من رضي بقتله، لا يرتضيه إلا يزيد، زاد الله (عز وجل) عليه عذابه الشديد، وقال أيضا: ذلك لعمري هو الضلال البعيد، الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد.
النموذج الثالث: أبو حامد الغزاليّ [ ت 505 هـ ]
من المواقف المتخاذلة إزاء حركة الإمام الحسين × تبرئة يزيد ابن معاوية من قتل سِبط رسول الله | وسبي حريمه، وإليك كلام الغزاليّ:
سُئل أبو حامد الغزاليّ عمّن صرّح بلعن يزيد هل يحكم بفسقه أم هل يكون ذلك مُرخّصاً له؟ وهل كان يزيد مريداً قتل الحسين علیه السلام أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحّم عليه أو السكوت عنه أفضل؟ ينعم بإزالة الاشتباه مثاباً.
فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله: المسلم ليس بلعّانٍ، ولا يجوز لعن البهائم، وقد ورد النهي عن ذلك .
وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنصّ النبيّ.
ويزيد صحّ إسلامه، وما صحّ قتله الحسين[علیه السلام]، ولا أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصحّ ذلك منه لا يجوز أنْ يظنّ ذلك به، فإنّ إساءة الظنّ بالمسلم حرام .
ومن زعم أنّ يزيد أمر بقتل الحسين [علیه السلام] أو رضي به، فينبغي أنْ يَعلم أنّ به غاية الحماقة، فإنّ من قُتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أنْ يُعلم حقيقة من الذي أمر بقتله، أو من الذي رضي به، ومن الذي كرهه، لم يقدر على ذلك، وإنْ كان قد قُتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف ولو كان في بلد بعيد وفي زمن قديم قد انقضى؟، فكيف يُعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد؟.
وقد تطرّق التعصّب في الواقعة، فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب، فهذا أمر لا يُعرف حقيقته أصلاً، وإذا لم يُعرف وجب إحسان الظنّ به .
ومع هذا لو ثبت على مسلم أنّه قتل مسلماً، فمذهب أهل الحقّ أنّه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، وإذا مات القاتل فربّما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم يجز لعنه، فكيف من تاب عن قتل، ولم يعرف أنّ قاتل الحسين [علیه السلام] مات قبل التوبة { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ }.
فإذن: لا يجوز لعن أحد ممّن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه فسكت عنه لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يُلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة: لِمَ لا تلعن إبليس؟ ويقال للّلاعن: لِمَ لعنت؟ ومن أين عرفت أنّه مطرود ملعون؟ والملعون هو المبعد من الله (عزّ وجلّ ) وهو غيب لا يُعرف إلّا في من مات كافراً، فإنَّ ذلك علم بالشرع .
وأمّا الترّحم عليه، فهو جائز بل مستحبّ، بل هو داخل في قولنا في كلّ صلاة :( الّلهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ) فإنّه كان مؤمناً والله أعلم، كتبه الغزالي.
ردّ أباطيل الغزاليّ :
أقول: هذا من الغزاليّ نصبٌ واضحٌ لأهل البيت، وتعامٍ بيّنٍ عن الحقّ، وإنكارصريحٍ لضروريّات الدين والتأريخ، حيث أجمع أرباب التأريخ والسير والعلماءُ على اختلاف مذاهبهم على
فسق يزيد بن معاوية بل منهم مَنْ كفّره لإنكاره التوحيد والنبوّة( ) والمعاد وهو واضح من خلال أشعاره وأفعاله كما لا يشكّ من له أدنى مُسْكة في إقدام يزيد على قتل الإمام الحسين وسفك دمه وسبي حريم رسول الله | فانّ أمر يزيد - لعنه الله - بقتل الحسين علیه السلام ورضاه بقتله وسبي حريم المصطفى، وإمداده ابن زياد بالجيوش والعساكر، ممّا تواتر وأجمعت عليه كتب التأريخ والسير.
وقد صنّف أبو الفرج ابن الجوزيّ الحنبليّ [ت 597 هـ ] كتاباً في جواز لعن يزيد بن معاوية، سمّاه: (الرّد على المتعصب العنيد المانع مِن ذمّ يزيد) وأكثر فيه من الأدلّة والشواهد على كفر يزيد بن معاوية لعنه الله، ونقل أهل التأريخ والسير أبياته اللاميّة التي أوّلها :
يا غُرَابَ البَيْنِ أزْمَعْتَ فَقُلْ إنّما تَنْدُبُ أمْراً قـَدْ فُعِلْ
الناطقة بفرحه وكفره وعدم تصديقه الرسول بيّنٌ لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتلفّع، وذكر العلّامة المطرزيّ في شرح المقامات في شرح المقامة الأربعين منها البيت الأخير، وهو قوله :
لَسْتُ مِنْ خِنْدِف إنْ لمْ أنْتَقِمْ مِنْ بَني أحْمَدَ مَا كانَ فَعَلْ
وهو من أدّل الدلائل على كفره وارتداده ( لعنه الله) وجَعْلَه قَتْلَ الحُسَيْن المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي وهتك حرمه مثل قتل سائر المسلمين، ضلالٌ عظيم ونصبٌ شديد، والأخبار المستفيضة من طرقهم مصرّحة بكفر قاتل الحسين علیه السلام ناطقة بأنّه أعظم الخليقة جرماً .
قال اليافعيّ: (وأمّا حُكْمُ مَنْ قَتَلَ الحُسَيْنَ أو أمَرَ بقتلِهِ مِمّن اسْتَحَلّ ذلكَ فَهو كَافِرٌ ).
النموذج الرّابع: عبد العزيز آل الشيخ
قال مفتي المملكة العربيّة السعوديّة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ (ما نصّه): بيعة يزيد بن معاوية بيعةٌ شرعيّةٌ أخذها أبوه له في أيّام حياته، وامتنع الحسين بن عليّ وابن الزبير عن المبايعة، لشبهةٍ عرضت لهم، وامتناع الحسين وابن الزبير (رضي الله عنهما ) كانوا غير مصيبين لأنَّ بيعة يزيد بيعةٌ شرعيّةٌ.
وأنَّ الحسين (رضي الله عنه وأرضاه ) نُصِح أنْ لايخرج إلى العراق، وأنْ لا يقبل مَنْ دعاه للبيعة، حذّره ابن عبّاس وابن عمر والفرزدق وكثير من الصحابة حذّروه من الخروج إلى العراق، وأنّ الخروج لا يؤدّي إلى مصلحة.
ثمّ قال: إنّ أهل السنّة والجماعة عقيدتهم وجوب الانقياد لمن بُويع، وأنّ من بويع واجتمعت الكلمة عليه وجب على الجميع السمع والطاعة له، وحرم الخروج عليه.
والحسين ( رضي الله عنه وأرضاه ) في خروجه كان الأمر خلاف ما ينبغي، وكان عدم الخروج هو الأولى والبقاء هو الأولى، والدخول فيما دخل الناس هو الأولى، لكنّه غُرّر به وقيل : إنّ العراق كلّه معك ، وإنّ بيعتهم انتظمت، وظنّ صدق ما يقولون ، والواقع أنّ العراق والشام ومصر والحجاز واليمن وسائر البلاد قد أعطوا البيعة ليزيد بن معاوية في حياة أبيه، وأصبح إماماً معترفاً به، لا يجوز الخروج عليه والتعدّي على خلافته. انتهى كلامه.
ردّ مزاعم المفتي آل الشيخ :
أوّلاً: لايشكّ مسلم من أهل الملّة في عظمة منزلة الإمام الحسين علیه السلام كيف وقد نزلَ القرانُ الكريمُ في فضله وتطهيره ووجوب مودته؟ كما صرّح الرسول في أحاديث لا تُحصى كثرةً بفضله وأحقيّته وشرفه.
هذا إلى جانب ما أفاء الله تعالى عليه من المواهب الربانيّة وما حباه جدّه المصطفى بالعلوم النبويّة وما أفاض عليه أبوه المرْتضى بالإفاضات العلويّة، وما خصّته أُمّه الزهراء، فالإمام الحسين علیه السلام أعلم أهل زمانه بالقرآن وتعاليمه وأحكامه وسنّنه كيف لا؟ وهو ممَّن نزل القرآن والوحي في بيوتهم التي فيها فسّرت آيات الكتاب المجيد وكشفت بعض أسراره.
عن الحَكَم بن عتيبة قال: لَقِيَ رَجُلٌ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ علیه السلام بالثعلبيّة وَ هُوَ يُرِيدُ كَرْبَلَاء ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ علیه السلام: مِنْ أَيِّ الْبُلْدَانِ أَنْتَ ؟
قَالَ الرَّجُل : مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، فَقَالَ علیه السلام: يَا أَخَا أَهْل الْكُوفَةِ ، أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ لَقِيتُكَ بِالْمَدِينَةِ لأريتُكَ أَثَرَ جَبْرَئِيلَ مِنْ دَارِنَا وَ نُزُولهُ عَلَى جَدِّيَ بِالْوَحْيِ ، يَا أَخَا الْكُوفَةِ ، مُسْتَقى الْعِلْم مِنْ عِنْدِنَا، أَفَعَلِمُوا وَ جَهِلْنَا ؟! هَذَا مَا لَا يَكُونُ.
وَ رَوَى الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَمْرٍو الْبَزَّازِ بِبَغْدَادَ ثنا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنِ شَدَّادِ الْمِسْمَعِيِّ ثنا أَبُو نُعَيْمٍ ثنا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس(رُضَّ) قَالَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ: إِنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيى بْنِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفاً وَ إِنِّي قَاتَل بِابْنِ ابْنَتَكَ سَبْعِينَ أَلْفاً وَ سَبْعِينَ أَلْفاً.
قال الحاكم النيسابوريّ: قد كنت أحسب دهراً أنّ المسمعيّ ينفرد بهذا الحديث عن أبي نعيم حتّى حدّثناه أبو محمّد السبيعيّ الحافظ ثنا عبدالله بن محمد بن ناجية ثنا حميد بن الربيع ثنا أبو نعيم فذكر باسناد نحوه.
وفي هذا الحديث القدسيّ تعظيم من الله تعالى بمكانة الإمام الحسين علیه السلام ومنزلته , حيث قرنه تعالى بأحد أنبيائه وهو النبيّ يحيى علیه السلام ثمّ يبيّن الحديث أنّه تعالى يغضب للحسين علیه السلام غضباً يفوق غضبه للنبيّ يحيى علیه السلام.
وهذا المفتي لا يخرج حاله عن احتمالين:
الاحتمال الأوّل: إنّ هذا المفتي لم يقف على مقام الإمام الحسينعلیه السلام في القرآن الكريم و السنّة النبويّة الشريفة فلم يسمع آية التطهير وآية المباهلة وآية المودّة وغيرها، ولم يسمع قول الرسول: (حسينٌ منيّ وأنا من حسينٌ أحبَ الله من أحبَ حسيناً ) ولم يسمع قوله: (الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيّدا شَبابِ أهْلِ الجَنَّةِ ) ولم يسمع قوله: (الحَسَنُ والحُسَيْنُ إمَامَانِ قَامَا أوْ قَعَدَا ).
وفي هذه الصورة يُعدّ هذا المفتى جاهلاً بأوضح المسلّمات في الإسلام .
الاحتمال الثاني: إنّ هذا المفتي وقف على تلك المناقب للإمام علیه السلام (وهذا لا يخفى عن أيّ مسلم فضلاً عن مَنْ يدّعي العلم) إلّا أنّه جعلها خلف ظهره وطوى عنها كشحاً ورمى بها عرض الجدار؟! فتلك والله المصيبة الكبرى، والنازلة العظمى، أجارنا الله من الضلال والتيه والعمى .
وفي هذه الحالة يُعدّ هذا المفتى ممّن اتّخذ القرآن مهجوراً، فهو مصداقٌ لقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}.
كما يُعدّ هذا المفتي تاركاً لسنّة النبيّ.
نعم إنّ هذه المواقف المتخاذلة ما هي إلّا امتداد للدور التضليليّ الذي انتهجه بنو أميّة طوال عقود من الزمن، ومن ذلك ما رواه ابن أبي الحديد قائلاً: (لمّا استوثق الأمر لأبي العبّاس السفّاح وفد إليه عشرة من أمراء الشام فحلفوا له بالله وبطلاق نسائهم وبأيمان البيعة بأنّهم لا يعلمون - إلى أنْ قتل مروان - أنّ لرسول الله أهلا ولا قرابة إلّا بني أميّة).
ثانياً: إنّ بيعة يزيد لم تكن بالشورى ولا بالنصّ وإنّما اُجبر الناس عليها ترهيباً وترغيباً.
يروي ابن الأثير :أنّ معاوية لمّا أراد أنْ يأخذ البيعة لولده يزيد جمع الناس وطلب من الأعيان والوجهاء أنْ يتكلّموا.
قال ابن الأثير: قام يزيد بن المقنّع العذريّ فقال :هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية ـ فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ومن أبى فهذا ، وأشار إلى سيفه .
فقال معاوية: إجلس فأنت سيّد الخطباء .
وقال ابن الجوزيّ من علماء الحنابلة:
من الاعتقادات العاميّة التي غلبت على جماعةٍ منتسبين إلى السنّة أنْ يقولوا: إنّ يزيد كان على الصواب وأنّ الحسين أخطأ في الخروج عليه!
ولو نظروا في السّير لعلموا كيف عُقدت له البيعة واُلزم الناس بها، ولقد فعل في ذلك كلّ قبيح، ثمّ لو قدّرنا صحّة خلافته فقد بدرت منه بوادر، وكلّها توجب فسخ العقد.
ثالثاً: إنّ بنود الصلح بين الإمام الحسن علیه السلام وبين معاوية تنصّ على أنْ يكون الأمر بعد معاوية للحسن بن عليّ علیه السلام، فإنْ حدث به حدث فلأخيه الحسين علیه السلام، وليس لمعاوية أنْ يعهد به إلى أحدٍ.
رابعاً: قال آل الشيخ: وأنّ الخروج - أي: خروج الإمام الحسين علیه السلام - لا يؤدّي إلى مصلحة، وقال (أيضاً): والحسين( رضي الله عنه وأرضاه ) في خروجه كان الأمر خلاف ما ينبغي، وكان عدم الخروج هو الأولى والبقاء هو الأولى، والدخول فيما دخل الناس هو الأولى .
أقول: إنّ هذا المفتي خوّل نفسه تشخيص مصلحة سيّد شباب أهل الجنّة بنصّ جدّه النبيّ والمطهّر من الرّجس تطهيراً بنصّ كتاب الله تعالى، وكأنّه أعلم من الإمام الحسين علیه السلام بالمصلحة؟!
لقد أجاب ابن العماد الحنبليّ [ ت 1089 هـ ] على نظائر هذا الإنحراف الفكريّ السافر قائلاً:
والعلماء مجمعون على تصويب قتال عليّ لمخالفيه لأنّه الإمام الحقّ ونَقَلَ الاتفاقَ (أيضاً) على تحسين خروج الحسين علیه السلام.
خامساً: إنّ هذا المفتي يبرّر فعل يزيد بن معاوية ويخطّئ سيّد شباب أهل الجنّة وهذا أمر لا ينقضي منه العجب، فإنّهم يرفعون شعار الدفاع عن الصحابة والإمام الحسين من خيرتهم وأشرفهم حسباً ونسبًا وعلماً وفضلاً، ولم يكن يزيد من الصحابة!! فأين الدفاع عن الصحابة؟!
علماً أنّ التأريخ سجّل ليزيد من المثالب ما يندى لها جبين البشريّة، وإليك طائفة من أقوال بعض الصحابة والتابعين وأئمة الحديث في يزيد بن معاوية ومواقفهم منه.
المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي