• الموقع : مركز اهل البيت في لندن - سري .
        • القسم الرئيسي : بحوث علمية .
              • القسم الفرعي : البحوث التاریخیة .
                    • الموضوع : السلم و اللاعنف في التأريخ الإسلاميّ في دَور الهجْرة إلى الحبشة .

السلم و اللاعنف في التأريخ الإسلاميّ في دَور الهجْرة إلى الحبشة

بعدَ مُضيّ خمسَ سنواتٍ من البعثةِ النبويّةِ الشريفةِ وبعدَ سنتين من الجهرِ بالدعوةِ المحمّديّة اشتدّ أذى المشركين على المسلمين باستعمال جميع  الوسائل الإرهابيّة والوحشـيّة في محاربة الإسلام والفئة المسـلمة الّتي آمنت به وصبرت على الأذى والاضطهاد حيث أخذت قريش بتضييق الخناق على المسلمين باستخدام شتّى أنواع العنف والاضطهاد ، عندها أمر الرسول المسلمين بالهجرة إلى الحبشة التي كانت تعدّ في وقتها متجر قريش وقال لهم: إنّ فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ،  حتّى يجعل الله لكم فرجاً ممّا أنتم فيه، وكان بالحبشة ملكٌ نصرانيٌ يدعى ( النجاشيّ ) معروف بعدالته وإنصافه وحكمته. وبقي النبيّ في مكّة تحت حماية عمّه أبي طالب علیه السلام يواصل دعوته صابراً  محتسباً كما صبر أولو العزم من الرّسـل  من قبله.

الهجرتان إلى أرض الحبشة:
الهجرة الاُولى: إنطلق أحد عشر رجلاً وأربع نسوة من المسلمين وكان أميرهم عثمان بن مظعون، في أوّل هجرة في الإسلام في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة، خرجوا متسللين سراً، حتّى وصلوا إلى الشعيبة وهي مرفأ مكّة ومرسى سفنها قبل جَدّة، فوجدوا سفينتين متجهتين إلى الحبشة فاستأجروهما وانطلقت بهم السفينتان وتبعتهم جماعة من قريش فلم يفلحوا في اللحاق بهم.
واستقرّوا بالحبشة في خير دار وأحسن جوار وأمنوا على دينهم وعبدوا الله دون أذىً أو خوف، وأقاموا فيها ثلاثة أشهر حيث كانوا يعبدون الله باطمئنان متمكّنين من معالم دينهم دون أنْ ينالهم أذىً أو مكروه.

حادثةُ سجودِ مشركي قريش 
وفي تلك السنة في شهر رمضان المبارك وقعت حادثة مشهودة وذلك أنّ النبيّ خرج إلى الحرم و قريش مجتمعة داخله على جاري عادتها فقام وأخذ يتلو سورة النجم، وهذه السورة بما احتوته من بلاغة عجيبة لم يسمعوا مثلها أخذت بمجامع قلوبهم فلمّا وصل إلى آخر السورة وختمها بآخر آية وهي قوله تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا).
فسجد فلم يتمالك المشركون المجتمعون حول الكعبة حتّى خرّوا سجّداً حيث  أخذت روعة هذه السورة وما حوته من الآيات بألبابهم فجعلتهم يسجدون مع النبيّ وعلى إثر هذا الحدث اُشيع في  مكّة :( أنّ قريشا أسلمت ) وتسرّب هذا الخبر إلى أهل الحبشة، فعزم المهاجرون على العودة، ولمّا بلغوا مشارف مكّة سمع المشركون بوصولهم فمنعوهم من الدخول إلى مكّة ولم يتمكّنوا من دخول مكّة إلّا بعد اللتيّا والتي.

الهجرة الثانية: بدأت قريش تضيّق الخناق بتسليط ألوان العذاب على المسلمين عموماً وعلى هؤلاء العائدين من الحبشة خصوصاً عندها أمرهم الرسول بشدّ الرّحال مرّة ثانية صوب الحبشة وهذه الهجرة الثانية لم تكن كسابقتها حيث ازداد عدد المهاجرين بنسبة ازدياد المسلمين أوّلاً وشدّة إيذاء قريش لهم ثانيةً، حتّى بلغ عدد المهاجرين هذه المرّة ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة إمرأة، وكان أميرهم جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليهما) ينظّم أحوالهم ويشرف على شؤونهم علماً أنّه كان أصغر المهاجرين سنّاً ولكنّ الرسول اختاره لرجاحة عقله واطلاعه  بأحكام الإسلام ومبادئه مضافاً إلى شجاعتة وكانت معه زوجته أسماء بنت عُميس وحين أزمع جعفر(رضوان الله عليه) على الرّحيل مع المهاجرين خرج النبيّ لتوديعه ودعا له قائلاً: (الَّلَهُمَّ الْطفْ بِهِ فِي تَيْسِيرِ كُلّ عَسِيرٍ فإنَّ تَيْسِيرَ العَسِيرِ عَلَيْكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ، أسْألُكَ المُعَافَاةَ فِي الدُنْيَا والآخِرَةِ ).

ملاحقةُ قريش للمسلمينَ
عندما علمت قريش أنّ المسلمين قد استقرّوا في جوار النجاشيّ بالحبشة على أحسن حال، وفي خير جوار، قرّر زعماؤهم أنْ يبعثوا في طلبهم رجلين ‏جَلْدَيْنِ وهما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى الحبشة وهما يحملان الهدايا للنجاشيّ ولمّا وصلا دخلا عليه، وأعطياه الهدايا فقبلها وعرف خبرهما، فطلب إحضار المسلمين لكي يسمع منهم، وأتى وفد المسلمين بإمارة جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) فسألهم النجاشي عن دينهم، فانبرى له جعفر ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وحدّثه عن الإسلام حديثاً طيبّاً، وقال فيما قال:
 ‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ‏ ‏وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ‏ ‏وَنُسِيئُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ‏ ‏بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنَ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنَ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ ‏ ‏الْمُحْصَنَةِ ‏ ‏وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ( قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإسلام) فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا فَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ وَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ.
فَقَالَ لَهُ ‏ ‏النَّجَاشِيُّ: ‏هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟
 فَقَالَ لَهُ ‏ ‏جَعْفَرٌ:‏ ‏نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ ‏ ‏النَّجَاشِيُّ ‏: ‏فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ ‏{ ‏كهيعص}  فَبَكَى ‏النَّجَاشِيُّ ‏ ‏حَتَّى ‏ ‏أَخْضَلَتْ ‏ ‏لِحْيَتُهُ وَبَكَتْ ‏أَسَاقِفَتُهُ ‏ ‏حَتَّى ‏أَخْضَلَتْ ‏ ‏مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ ‏ ‏النَّجَاشِيُّ ‏: ‏إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ ‏ ‏مُوسَى‏ ‏لَيَخْرُجُ مِنْ‏ مِشْكَاةٍ  وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا وَلَا أَكَادُ.

إسلامُ النجاشيِّ ملكِ الحبشة
لقد تعزّزت مكانة المسلمين المهاجرين ولاسيّما جعفر (رضوان الله عليه) لدى النجاشيّ، وذلك من خلال  لقاءآته المتكررة بهم حيث تجلّت له عظمة الدين الإسلاميّ الحنيف ممّا كان يسمعه من القران الكريم وممّا كان يراه من المسلمين من شخصيّة رصينة ومنطق فيّاض وحسن أدب وسموٍ في الأخلاق، نعم لقد بُهر النجاشيّ بكلّ ذلك كما بُهر بشخصيّة جعفر بن ابي طالب وملكاته وخصائصه العالية فكان يرى فيه شخص النبيّ الأكرم، ولا غرو فإنّه كما قال له: (يا جَعْفَرَ أشْبَهْتَ خَلْقِي وخُلُقي وأنتَ مِن شَجَرَتِي التِي أنا مِنْها).
وهكذا استطاع جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليهما)من خلال الحوار الهادف وقوّة المنطق والخُلُق الرفيع ورجاحة العقل أنْ يدعو النجاشيّ إلى الإسلام، ولم تمضِ إلّا مدّة وجيزة حتّى أسلم النجاشيّ ملك الحبشة، إلّا إنّه راى كتمان إسلامه نظراً  لمَا تقتضيه المصلحة العامّة لإدارةِ شوؤن مملكته.
لقد كان النجاشيّ موضع تقديرٍ من النبيّ حتّى إنّه نعى النجاشيّ في يوم وفاته في رجب عام تسعة للهجرة ، فقد روي أنّ  رَسُولُ اللَّهِ| قال لمن حوله من المسلمين : أُخْرِجُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخٍ لَكُمْ مَاتَ بِغَيْرِ أَرْضِكُمْ "، قالُوا : وَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: النَّجَاشِيُّ " ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْبَقِيعِ وَ كُشِفَ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَأَبْصَرَ سَرِيرِ النَّجَاشِيُّ وَ صَلَّى عَلَيْهِ والمُسْلِمونَ خَلْفَهُ صُفُوَفاً.

نتيجةُ الهجرةِ إلى الحبشةِ
وهنا سجّل المؤرّخون قرارَ الهجرة إلى الحبشة وثبّتوه في وثائق التأريخ أسطراً لامعةً في الكفاح السلميّ المقدّس والثبات على العقيدة الحقّة وعدم استخدام العُنْف وعدم اللجوء إلى القوّة.
وهذه الهجرة الجماعيّة إلى الحبشة تُعدّ خطّةً واضحة الدلالة على المنهج السلميّ الذي إختطه الرسول منذ الأيّام الأولى لانبثاق الرسالة الإسلاميّة الخالدة ذلك النهج السماويّ والحضاريّ المتمثّل بالابتعاد عن المواجهة المسلّحة حتّى مع ألدّ أعداء الإسلام، نعم إنّ هذه الهجرة لم تكن إلّا أملاً في تفادي الحرب  وحقناً للدماء والتخلّص من أجواء الدخول في المعركة.
وقد تمخّضت عن هاتين الهجرتين الحبشيّتين نتائج باهرة وثمار ظاهرة ، فمضافاً إلى حقنها دماء المسلمين وصون أعراضهم وحفظ حقوقهم الإنسانيّة فإنّها ركّزت دعائم الإسلام في تلك البلاد وغرست بذور الدين الحنيف في تلك الربوع.
وإذا كانت البعثة النبويّة مبدأ انطلاق الدعوة إلى الحق فإنَّ الهجرة مبدأ انطلاق العمل به.

المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي


  • المصدر : http://www.surrey-ic.org/subject.php?id=9
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 03 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 05 / 4