لقد اسلفنا بأنّ عصر الرسالة كان البذرة الاُولى لقاعدة نفي الضرر، حيث طرحت بشكل خاص في الكتاب العزيز وبشكل عام في السنة الشريفة، وهذا ما تقدّمت الإشارة اليه، وسنستوفي البحث عنه إن شاء اللّه.
إلاّ أنّ الذي يهمنا في هذا الحقل هو تسليط الضوء على الأسباب والعوامل الظاهرية التي جعلت الشارع المقدّس يصدر الحكم بنفي الضرر، ويمنع من إيراده.
أما الكتاب العزيز : فانه حكم بنفي الضرر في أوّل خطوة منه لاجتثاث الظواهر السلبية التي خلّفتها عادات الجاهلية الاُولى السائدة في تلك المجتمعات آنذاك.
فمن عاداتهم : إضرار الوالدين بولدهما، حيثُ كانت الاُمّ تترك إرضاع ولدها غيضاً على أبيه، وكان الأب يضر بولده بترك الإنفاق عليه. أو بأخذه من اُمه وإعطائه للضرة. فنهى تعالى عن ذلك بقوله : (ولا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده).
ومنها : الإضرار بالمطلقات ـ : حيث كان الرجل يطلّق زوجته، ويراجعها
قبل انقضاء عدّتها لا لرغبة فيها، بل ليطوّل العدّة، فنهى تعالى عن ذلك بقوله : (ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا).
ومنها : الإضرار بالمطلقات أيام العدّة، حيث كان الرجل يدخل الضرر على زوجته المطلقة أيام عدّتها بالتضييق عليها في المسكن، والنفقة، والكسوة. فنهى تعالى عن ذلك بقوله : (ولا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيّقوا عَلَيْهِنَّ).
ومنها : الإضرار بالكاتب والشهيد، حيث كان كاتب الدين يكتب مالم يُمْلَ عليه، وكان الشاهد يشهد بمالم يستشهد فيه، وكان بعض الشهود يمتنع عن أداء الشهادة مع القدرة عليها، فنهى تعالى عن ذلك بقوله : (ولا يضار كاتب ولا شهيد).
ومنها : الإضرار بالورثة، حيث كان الشخص يوصي بجميع ماله، أو ببعضه
الى غير الطبقة الوارثة، أو يقرّ بدين غير مدان به; دفعاً للميراث عن وارثه فنهى تعالى عن ذلك بقوله ـ : (أو دين غير مضار).
ومن خلال هذه الآيات الكريمات يمكننا القول بأنّ الهدف الأوّل للقرآن الكريم من الحكم بنفي الضرر هو مَحقُ تلك العادات التي خلّفها العصر الجاهلي، واجتثاث تلك الظواهر السلبية التي كانت البشرية تعاني من وطأتها.
أمّا السنة النبوية الشريفة : فالوارد فيها أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)حكم بنفي الضرر في ثلاثة موارد :
الأوّل : حديث قضيّة سمرة بن جندب.
الثاني : حديث قضيّة الشفعة.
الثالث : حديث قضيّة منع فضل الماء.
أمّا قضيّة منع فضل الماء : فالسبب في حكم النبيّ بالنهي عنه هو أنّ آبار البوادي كان حولها كلأ مباح، فكان صاحب البئر بحاجة الى الكلأ دون الماء، فكانت تأتي مواشي غيره فتشرب من فاضل ماء بئره وتأكل من الكلأ النابت حولها، وصاحب البئر لم يكن له حقّ منعها عن الكلأ; لكونه غير مملوك له، فكان يمنع من فاضل ماء البئر ليمنع من الكلأ، فنهى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)عن ذلك دفعاً للضرر.
قال شيخ الشريعة الاصفهاني : والمعروف في تفسير الحديث بين الفقهاء والمحدثين من الفريقين أنّه يراد به (أي بحديث منع فضل الماء) ما إذا كان حول البئر كلاء وليس عنده ماء غيره ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلاّ إذا تمكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي، فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعي. (انظر : قاعدة لا ضرر لشيخ الشريعة، ص14).
وذكر ابن حجر العسقلاني عن المهلب انه قال في تفسيره لحديث منع فضل الماء : (المراد رجل كان له بئر وحولها كلأ مباح فأراد الاختصاص به، فيمنع فضل ماء بئره وان ترده نِعَمُ غيره للشرب، ولا حاجة به الى الماء الذي يمنعه وإنما حاجته الى الكلأ، وهو لا يقدر على منعه; لكونه غير مملوك له، فيمنع الماء فيتوفر له الكلأ لأنّ النِعَم لا تستغني عن الماء بل إذا رعت الكلأ عطشت، ويكون ماء غير البئر بعيداً عنها، فيرغب صاحبها عن ذلك الكلأ فيتوفر لصاحب البئر بهذه الحيلة...). اُنظر : فتح الباري 12 : 296 ـ ط . ، بولاق مصر.
وأمّا قضيّة الشُفعة : فالسبب في حكم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بثبوتها للشريك هو: أنّ أحد الشريكين يقدم على بيع حصته لشخص ثالث، مما يؤدي الى إلحاق الضرر بالشريك لجهة من الجهات، منها : كون الشريك الجديد سيء المعاشرة أو المعاملة ونحوهما، فلذلك حكم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بالشُفعة دفعاً للضرر.
وأمّا قضيّة سَمُرة : فالسبب في حكم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فيها بنفي الضرر هو: أنّ سمرة بن جندب كان له نخلة في بستان رجل من الانصار، وكان دار الانصاري بباب البستان بحيث إذا أراد سمرة الدخول الى نخلته مرَّ بدار الانصاري، وكان يدخل سمرة بدون استإذان فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا أراد الدخول، فابى سمرة، فشكاه الى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ولما استنفذ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)الطرق في إرضاء سمرة بالإستاذان أمر الأنصاريّ أن يقلع نخلة سمُرة معللاً ذلك بعدم الضرر والضِرار.
وسَمُرة ـ بفتح السين وضمّ الميم ـ بن جُندب، بن هلال، بن جريح بن مرّة، ابن حزم، بن عمرو، بن جابر، بن ذي الرياستين الفزاري.
والظاهر من تتبع كتب السير والتاريخ والرجال : أنَّ الرجل فاسق منافق وضّاع، بل لا يبعد الحكم بكفره نظراً الى مخالفته الصريحة لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)ومعاندته له حتى اغاض من لا توازن السماوات والأرض حلمه، وكان من أشدّ الناس عداوة لأمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)، ولأهل البيت(عليهم السلام)، وشيعتهم، وله فضائع، ومثالب، وجرائم، ومخازي لا يخلو منها كتاب من كتب التاريخ المتضمنة لأحداث سنة خمسين.
مات سنة 51، وقيل : 59، وقيل : 60.
وعمدة ما استدل به الفقهاء في إثبات نفي الضرر هو قضيّة سمُرة; وذلك لورودها في روايات صحيحة وموثقة; بل اُدعي تواترها وأما حديثي الشُفعة، ومنع فضل الماء فقد وقع التشكيك بتذييلها بجملة نفي الضرر من جهات عديدة.
منها : ضعف سند الحديثين; لعدم توثيق محمد بن عبد اللّه بن هلال، وعُقبة بن خالد.
ومنها : أنَّ الجمع بين نفي الضرر وبين الحديثين جمعٌ في الرواية لا في المروي، بمعنى أنّه لم يصدر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما صدر عن الراوين.
المصدر: کتاب قاعدة لاضرر و لا ضرار
تقرير أبحاث المُحقّق الاُصُوليّ الكَبيرآية اللّه العُظمى الشيخ ضياء الدين العراقيّ(قدس سره)(1278ـ1361هـ ق)
تأليف الفقيه المحقّق آية اللّه السيّد مرتضى الموسويّ الخلخاليّ (1324 ـ اعتقل 1412هـ .ق)
تحقيق وتعليق سماحة العلامة السيد قاسم الحُسينيّ الجلالي
|