ذهبت بعضُ الأقلام إلى أنّ ثورة الإمام الحسين علیه السلام مصداقٌ تحليليٌّ لتفسير إلقاء النفس في التهلكة، حيث قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
هذه هي المسألة التي اُثيرتْ ولا تزال تثارُ كأُسلوبٍ من أساليب التشكيك، حيث عدّوا قيام الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء مصداقاً لآية التهلكة، وهذه الشبهة ناشئة من عدم درك مفهوم الآية الشريفة، لأنّ الإلقاء بالنفس إلى التّهلكة يتعلّق بالموارد الّتي لا يكون فيها الهدف يستحقّ التضحية بالنفس وإلّا فلابدّ من التضحية حفاظاً على ذلك الهدف المقدّس كما صنع الإمام الحسين علیه السلام وجميع الشهداء في سبيل الحقّ منذ بزوغ فجر الرسالة وسيتواصل إلى قيام يوم الدين.
من هنا ربّما نجدُ في أنفسنا (في معالجة هذا التشكيك) حاجةً إلى استعراض(آية التهلكة) التي يبدو أنّ عدم استيعاب مفهومها هو الأساسُ في هذه الفكرة الخاطئه.
تعريف ُالتهلكةِ
التهلكة: تعني الهلاك وهو وضع النفس موضع الضرر أو الخسارة ممّا يكون عاقبته الهلاك.
والآية ناهية عن مطلق التهلكة وهو كلّ ما يوجب الهلاك مِن إفراطٍ وتفريطٍ ، فكما أنّ البخل والامساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب اضعاف القوّة وذهاب القدرة ، وفيه هلاك العدّة بظهور العدو عليهم ، كذلك التبذير بانفاق جميع المال فإنّه يوجب الفقر والمسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروءة.
سبَبُ نزولِ آية التهلكةِ
رَوَى الترمذيّ [ ت279 هـ ] عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِن الرُّومِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوب الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإسلام، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإسلام، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاحَهَا، وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ.
وقالَ ابنُ كَثيرٍ[ ت 774 هـ ] فِي تَفْسِيِرِهِ: قَالَ ابنُ عبّاسٍ فَي قَوْلِهِ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ فِي القِتَالِ إنّمَا هوَ فِي النَفَقَةِ أنْ تُمْسَكَ عَنْ الانْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فعُلِمَ: أنّ المراد من النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة - كما هو صريحُ سببِ نزولها - هو النهي عن كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط أو تفريط، ومنه الإمساك عن الإنفاق في الجهاد، فكما أنّ الجهاد في ميادين الدفاع عن الحقّ بحاجة الى العامل الروحيّ والمعنويّ كذلك هو بحاجة الى العامل الماديّ من الاستعداد البدنيّ والمعدّات الحربيّة، حيث أنّ الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب أعمّ من السلاح ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحيّة، فإنّه بدونها تتضاءل الفرص أمام إحراز التقدّم .
الأقوالُ في تفسيرِ آية التهلكةِ
ذكر المفسّرون عدّة معانٍ متصوَّرة لقوله تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وهي كالتالي:
الأوّل: لا تتركوا الإنفاق في سبيل الله تعالى.
الثاني: لا تركبوا المعاصي باليأس من المغفرة.
الثالث: لا تسرفوا في الإنفاق الذي يأتي على النفس.
والرابع: لا تقتحموا الحرب من غير نكاية في العدو، ولا قدرة على دفعهم.
ويری الشيخُ الطوسيُّ [ ت 460 هـ ]: أنّ الأولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك.
أقول:
المعاني الثلاثة الأولى لايمكن أنْ يَستدّل بها القائلُ بأنّ نهضة الإمام الحسين علیه السلام إلقاءٌ إلى التهلكة بل إنّ المعنى الأوّل والثاني خير دليل على مشروعيّة حركة الإمام الحسين علیه السلام.
فيبقي المعنى الرّابع والمراد منه: أنّ التضحية من أجل أمرٍ غير عقلائيّ مصداق للتهلكة.
بيانُ ذلك: ثبت في الفقه الإسلاميّ أنّه ليست كلّ تهلكة حراماً، بل لو كانت الآية عامّة أو مطلقة فهي مخصّصة أومقيّدة بما دّل على وجوب الجهاد بقسميه، حيث ورد عن رسول الله أنّه قال: ( سَيّدُ الشُهَدَاءِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إلىَ إمَامٍ جَائِرٍ فَنَصَحَهُ فَقَتَلَهُ ).
ولو كان قيامه (صلوات الله عليه) واستشهاده تهلكة، لكانت حركات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التأريخ الإسلاميّ كلّها تهلكة، ولتمّ حذف كلّ أبواب الجهاد وأحاديثه من كتب المسلمين، فإنّ الجهاد ملازم للموت والهلكة الدنيويّة، ولكن فيه الحياة الأخرويّة الباقية والخالدة.
أخرج أحمد بن حنبل [ 164 - 241 هـ ] عن أبي إسحاق قال قلتُ للبراءِ: الرَّجلُ يَحملُ على المشركينَ أهوَ ممّن ألقَى بِيَدِه إلى التَهْلُكَةِ قَال: لا، لأنّ اللهَ تعالى بَعَثَ رَسُولَ الله فقال: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه} إنّما ذَاكَ فِي النَفَقَةِ.
قال محمّد بن الحسن الشيبانيّ: لابأس على رجلٍ يحملُ على الألف مع النجاة أو النكاية، ثمّ قال: ( ولا بأس بمن يفقد النجاة أو النكاية إذا كان إقدامه على الألف ممّا يُرهب العدوّ ويقلق الجيش) معلّلاً بأنّ هذا الإقدام أفضل من النكاية، لأنّ فيه منفعةً للمسلمين.
ويقول إبن العربيّ المالكيّ [ ت: 543 هـ ]: جوّز بعض العلماء أنْ يحمل الرّجل على الجيش العظيم طالباً للشهادة، ولا يكون هذا من الإلقاء إلى التهلكة، لأنَ الله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاة اللّهِ} خصوصاً إذا أوجب الإقدام تأكّد عزم المسلمين حين يرون واحداً منهم قابل الألوف.
فَعُلم: إنّ آية التهلكة لا تشمل مطلق الإقدام على الضرر و الخطر ، ولا تحرّم التضحية بالنفس والجسد إذا كانت لغاية وهدف عظيمين كالذي قام به الحسين علیه السلام في ثورته المقدّسة.
لقد توفرت في تضحياته جميع اسس التضحية وشروطها حيث بذل الولد والأهل والصحب والنفس في سبيل بقاء الدين الإسلاميّ الذي ما كان يقدّر له البقاء لولا عطاء الحسين علیه السلام.
نعم ليس من شككّ: لولا كربلاء لدفن الإسلام تحت ركام البدع ووطأة الانحرافات وترسبات الخرافات ،لكنْ شاء الباري تعالى أنْ يحفظ هذا الدين الحنيف بتلك الدماء الزاكيات.
المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي
|