• الموقع : مركز اهل البيت في لندن - سري .
        • القسم الرئيسي : بحوث علمية .
              • القسم الفرعي : البحوث التاریخیة .
                    • الموضوع : السلم و اللاعنف في التأريخ ُالإسلاميُّ  في دورهِ المدنيّ .

السلم و اللاعنف في التأريخ ُالإسلاميُّ  في دورهِ المدنيّ

صعّد المشركون من تعذيب المسلمين وإيذائهم بمختلف الوسائل إلى حدّ أصبحوا يفكّرون بإغتيال النبيّ وذلك لعدّة عوامل ، منها:
العامل الأوّل: غياب حامي النبيّ وكافله سيّد البطحاء أبي طالب (رضي الله عنه) الذي كانت قريش تهابه.
العامل الثاني: غيظ المشركين الشديد من تنامي المسلمين في مكّة ويثرب واليثربيّون يجيدون فنون الحرب والقتال وسوف ينصرون الإسلام، فشعر كفّار مكّة أنّ الأمر سيخرج من أيديهم إنْ لم يستبقوا الأحداث.
العامل الثالث: تسرّبت أخبار استعداد النبيّ للهجرة إلى المدينة ممّا يعني أنّها سوف تصبح مركزاً كبيرًا يتجمع فيه المسلمون من كلّ مكان وبذلك يشكّلون خطراً على تجارة أهل مكّة عندما تمرّ بالمدينة في طريقها إلى الشام ذهاباً وإياباً.
على إثر ذلك تمّ عقد أخطر اجتماع في دار الندوة، صباح يوم الخميس في السادس والعشرين من صفر من السنة الرّابعة عشر للبعثة، وكان اجتماعاً طارئاً حضره ممثّلون عن كلّ القبائل القرشيّة عدا بني هاشم، وبعد النقاش اتّفقوا على أن تشترك جميع القبائل في قتل النبيّ.
هنا أذِنَ اللهُ تعالى للمسلمين في مكّة وللنبيّ  بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها بنفسه وبدأ المسلمون بالهجرة إليها أفراداً و جماعات  في حركة  تُعدّ منعطفاً في التأريخ الإسلاميّ  من جهة، كما أنّها تعدّ أوضح برهان على أنّه أراد للرسالة السماويّة أنْ تسير بسلام وهدوء وحكمة وبصيرة.

الإنجازاتُ النبويّةُ في الهجرةِ إلى المدينةِ المنوّرةِ
وقد قام النبيّ بإنجازات عظيمة رافقت هجرته إلى المدينة المنوّرة وإذا لاحظنا تلك الإنجازات نجدها تهدف إلى إرساء معالم السلم وتثبيت أركان السلام في المجتمع.

الإنجاز الأوّل: الإصلاحُ بين قبيلتي الأوسِ والخزرجِ
 تعدُّ الأوس والخزرج من أكبر قبائل يثرب ( المدينة المنوّرة ) وكان بينهما نزاعات وحروب لحقبة طويلة من الزمن استمرّت قرابة مائة وعشرين سنة، وكان لليهود دورٌ كبيرٌ في إذكائها للسيطرة على المدينة فانحاز بعض اليهود للأوس وبعضهم الآخر للخزرج، يمدّونهم بالسلاح ويقرضونهم المال ويحرّضونهم على الاقتتال. 
وكانت آخر الحروب بينهما (حرب بُعاث) قبل البعثة النبويّة بخمس سنوات وكانت الغلبة فيها للأوس على إثرها تحرّك رجال الخزرج يطلبون الحلف،  فخرج أسعد بن زرارة، وذكوان إلى مكّة، في عمرة رجب، يسألون الحلف على الأوس، فساقهما التوفيق إلى رسول الله ولمّا سمعا منه أسلما ثمّ قالا: يا رسول الله، ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن، ويدعو الناس إلى أمرك، فبعث رسول الله معهم مصعب بن عمير وبعد مضيّ فترة وجيزة دخلت قبيلتا الأوس والخزرج في الإسلام، ثمّ قدمت الأوس والخزرج مكّة وبايعتا النبيّ وبهجرة النبيّ إلى المدينة المنوّرة استحكمت عُرى السلام والمحبّة بين القبيلتين وذابت العصبيّات وتناسوا ما بينهم من ثارات الجاهليّة، وأصبحوا كالجسد الواحد، فاغتاظ اليهود من ذلك، فراحوا يحوكون الدسائس ومن ذلك أنّ (شاس بن قيس) اليهوديّ مرّ على نفر من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدّثون، فغاظه ما رأى، فأمر شابّاً من اليهود أنْ يجلس إليهم ويذكّرهم (يوم بُعاث)  ففعل , فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا، وقالوا: السلاحَ السلاحَ وموعدكم الظاهرة (والظاهرة الحَرَّة) فخرجوا إليها وتجاور الناس فانضمّت الأوس بعضها إلى بعض على دعوتهم التي كانوا عليها في الجاهليّة، فبلغ ذلك النبيّ  فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار دونما تأخّر أو تأجيل حتّى جاءهم في حيّهم فقال : (يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ . . اللَّهَ اللَّهَ . . أَ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَ أَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَن أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَ قَطَعَ بِهِ عَنْكُمُ أَمْر الْجَاهِلِيَّةِ وَ أَلّفَ بَيْنَكُمْ) ؟!!.
لقد أثّرت مبادرة الرسول في نفوس الأوس والخزرج حيث عرف القوم أنّها نزعةٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوّهم، فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا وعادوا أشدّ ممّا كانوا لحمةً وتواثقاً وتعاضداً وحبّاً فيما بينهم ثمّ انصرفوا سامعين مطيعين، فنزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ  وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ  وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
وممّا تقدّم يتّضح أنّ النبيّ مهّد قبل هجرته إلى المدينة عمليّة الصلح بين الأوس والخزرج كما استطاع أنْ يُبقي على هذا الصلح بين هاتين القبيلتين ويحافظ عليه خلال وجوده في المدينة المنوّرة.

الإنجاز الثاني: المؤآخاةُ بين المهاجرينَ والأنصار
أفرزت الهجرة حركةً إنسانيّةً ليس لها نظير في التأريخ البشريّ على امتداده  حيث أرسى معالم الإخاء في أجلى صوره وأبهى مظاهره، وذلك في عمليّة المؤآخاة بين المهاجرين والأنصار.  
ويُعدّ هذا الحدث التأريخيّ أعظم مواقف الهجرة وأجلّها وأكثرها روعةً وجمالاً حيث أدّى إلى اضمحلالِ كلّ الفوارق بين أبناء البشر، سواء كانت عرقيّة ام قَبَلِيَّة ام طبقيّة أم قوميّة ،تلك الفوارق التي كانت متأصّلةً في ذلك المجتمع.
لقد حملت قضيّة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في طيّاتها كثيراً من المعاني الإنسانيّة السامية،  فاعطت أجمل الدروس في المؤاخاة في الله والإيثار والطاعة لله تبارك وتعالى ولرسوله.
ومعنى هذا الإخاء ذوبان الهمجيّة والعصبيّة الجاهليّة، فلا حميّة إلّا للإسلام، فجعل النبيّ من هذه الأخوّة مسؤوليّة حقيقيّة كمسؤوليّة الأب إزاء أسرته وأبنائه، والأخ تجاه أخيه.
وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الربيع ، الذي آخى رسول بينه وبين عبد الرّحمان بن عوف إذ عرض على عبد الرّحمان بن عوف أنْ يشركه في بيته وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكنّ عبد الرّحمان شكره وطلب منه أنْ يرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها.
ولم يكن سعد بن الربيع منفرداً عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه بل هذا شأن عامّة الصحابة في علاقتهم وتعاونهم مع بعضهم.
وبذلك قام بتأسيس علاقات الترابط الروحيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة بين مسلمي المدينة وهم الأنصار، وبين مسلمي مكّة وهم المهاجرون، وبين الأنصار أنفسهم، وبين المهاجرين انفسهم، وأطلق اسم (المؤآخاة) على هذه العلاقة.

الإنجاز الثالث: إصدارُ وثيقةِ التعايشِ السلميّ 
في أواسط العام الأوّل من الهجرة أصدر النبيّ وثيقة السلام في مجتمع تنوّعت أديانه وثقافاته وقبائله حيث قبيلتا الأوس والخزرج العربيتان والقبائل اليهوديّة المتشكّلة من بني قَينقاع وبني النضير وبني قرَيظة، مضافاً إلى المشركين من العرب، فجاءت هذه الوثيقة لتثبّت أصول التعايش السلميّ.
إنّ هذه الوثيقة التي أبرمها رسول الله بين الأنصار والمهاجرين من جهة وبين اليهود من جهة أخرى قررت الحقوق الإنسانيّة بغض النظر عن الدين والعرق والجنس والطبقة، وكانت أوّل وثيقة إنسانيّة في العالم كلّه، ولم ترق إليها في النظريّة والتطبيق حتّى ما يُعرف اليوم بوثيقة حقوق الإنسان لدى الأمم المتّحدة.

إحصاءُ سكّانِ المدينة زمن النبيّ 
ويذكر المؤرّخون أنّ الرسول بدأ ـ قبل إصدار الوثيقة ـ بفحص البنية الإجتماعيّة والدينيّة والسكانيّة للمدينة، فأمر بإحصاء سكّانيّ في المدينة ـ في حركةٍ حضاريّة لم يعرفها المجتمع السائد آنذاك ـ وقد تبيّن نتيجة الإحصاء أنّ عدد سكّان المدينة يبلغ عشرة آلاف شخص، منهم  ألف وخمسمأة مسلم، وأربعة آلاف يهوديّ وأربعة آلاف وخمسمأة من مشركي العرب، وعلى ضوء معطيات المسح الميدانيّ وضع بنود هذه الوثيقة، وسنذكرها بكاملها لما تحتويه من فصول مهمّة تؤصّل للسلم العالميّ وتجتث العُنْف من منابعه، وما هذه الوثيقة إلّا برهان ساطع على حرص الإسلام على بثّ السلم والتسامح ورفضه للعنف بجميع أشكاله.

نصُّ وثيقة المدينة المنوّرة 
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ، وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ:

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ:
 إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو عَوْف ٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ،وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ، وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ  ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنّ ذِمّةَ اللّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِيَ بَعْضٍ دُونَ النّاسِ وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ، وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ وَإِنّ كُلّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يُعْقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِئْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ،وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هُدًى وَأَقْوَمِهِ، وَإِنّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسَهَا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنّهُ مَن اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قَوَدٌ بِهِ إلّا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّة وَلَا يَحِلّ لَهُمْ إلّا قِيَامٌ عَلَيْهِ، وَإِنّهُ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا وَلَا يُؤْوِيهِ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ .
وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ (عَزّ وَجَلّ) وَإِلَى مُحَمّدٍ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ، وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار ِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ; وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ; وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ;
 وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ; وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف;ٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ ;وَإِنّهُ لَا يَخْرَجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ وَإِنّهُ لَا يُنْحَجَزُ عَلَى ثَأْرٍ جُرْحٌ وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إلّا مِنْ ظَلَمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَبَرّ هَذَا ; وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصّحِيفَةِ، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْحَ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ، وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ، وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرَ مُضَارّ وَلَا آثِمٌ، وَإِنّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ (عَزّ وَجَلّ) وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا ،وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمُ الّذِي قِبَلَهُمْ، وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ مَعَ الْبِرّ الْمُحْسِنُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ. 
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ، وَإِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ ، إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ وَإِنّ اللّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى، وَمُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ.

أبرزُ المبادئ العامّة لوثيقة المدينة

المبدأ الأوّل: إعتبار أهل يثرب أمّة واحدة
هذا المبدأ يكوّن عنصراً أساسيّاً في إرساء السلم والتسامح بين أبناء المدينة المنوّرة وهم الذين اُبرمت بينهم هذه الوثيقة وهم المسلمون واليهود، حيث ينصّ هذا البند على أنّ أهل يثرب كلَّهم أمّةٌ واحدةٌ متكافلةٌ، يُحْظر عليهم أيُّ تحالفٍ مع قوى من خارجِ المدينةِ.

المبدأ الثاني: إعتماد الحريّة الدينيّة بأوسع معانيها 
أكّدت الوثيقة إقرار مفهوم الحريّة الدينيّة للجميع فليس هناك أدنى تفكير في إكراه طائفة على دين معيّن، وهذه حريّة لا تقرّها الدولة الإسلاميّة وتسمح بها فحسب، بل إنّها تتعهّد برعايتها.

المبدأ الثالث: إقرار حريّة المواطنة 
أقرّت الوثيقة أنّ الأرض تسع الخلق وألغت مفهوم ( النفي والتهجير) كما أقرّت حقّ الجميع في البقاء في المدينة آمناً وحقّه في الخروج والسفر والترحال والتنقّل وهو آمن مادام ملتزماً بالقانون، فقد نصّت الوثيقة على أنّ  من خرج من المدينة آمن، ومن قعد آمن إلّا من ظلم وأثم.

المبدأ الرّابع: حدّدت المرجعيّة العليا لحلّ الخلافات
حددّت الوثيقة مرجعيةَ التقاضي وفضّ النزاعات بالرسول وكوّنت بذلك وحدة سياسيّة بين الأطراف المتصارعة في المدينة، وهو أمر لم يألَفه العرب قبل الإسلام.

المبدأ الخامس: احترام حقوق الإنسان وتكريمه 
أكّدت الوثيقة أنّ الإنسان بغضّ النظر عن مذهبه وعرقه ولونه مكرّم وأنّ ماله وعرضه ودمه كلّ اُولئك مصون ومحترم ومحفوظ، وأنّه باعتداده إنساناً له حقوق ثابتة ومحترمة، وأنّ الدولة تسعى جاهدة لحماية هذه الحقوق.

الإنجاز الرّابع: دعوة الأُمم إلى الدين الإسلاميّ
من الإنجازات المهمّة التي قام بها الرسول الأعظم | في المدينة المنوّرة دعوته هرقل عظيم الروم إلى الإسلام ممّا جعلته يكتشف الحقّ إلّا أنّه كتمه خوفاً من قومه.

أبو سفيان وهرقل عظيم الروم 
رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجّارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ، وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ 
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا ،  فَقَالَ: ادْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.
قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا.
قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا، وَنَنَالُ مِنْهُ.
قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ.
 فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.
 ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ [أي رسول الله] بِهِ دِحْيَة ابنِ خَليفةِ الكَلبيّ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ:

كتاب النبيّ إلى هرقل عظيم الروم  
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسلام، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ.
{قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإسلام.

إسلام قبيلة هَمْدان 
وممّا يؤكّد لنا انتشار الإسلام عبر الوسائل الثقافيّة السلميّة بين القبائل العربيّة ،هو دخول قبيلة هَمْدان اليمانيّة في الإسلام كلّها دفعةً واحدةً في يوم واحدٍ حين دعاهم لذلك الإمام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام بعد إرساله إلى اليمن من قبل النبيّ. 
روى إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن جدّه، عن البراء، أنّ النبيّ بعث خالد بن الوليد إلى اليمن، يدعوهم إلى الإسلام، قال البراء: فكنت  فيمن خرج مع خالد، فأقمنا ستّة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه.
 ثمّ إنّ النبيّ بعث عليّاً علیه السلام  فأمره أنْ يقفل خالد بن الوليد، إلّا رجل كان يمّم مع خالد أحبّ أنْ يعقّب مع عليّ علیه السلام فليعقّب معه، فكنت فيمن عقّب مع عليّ علیه السلام فلمّا دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلّى بنا عليّ علیه السلام ثمّ صفّناً صفاً واحداً، ثمّ تقدّم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله فأسلمت همدان جميعاً.
 فكتب عليّ علیه السلام إلى رسول الله  فلمّا قرأ الكتاب خرّ ساجداً ثمّ رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان.
قال الذهبيّ: هذا حديث صحيح أخرج البخاريّ بعضه بهذا الإسناد.
ثمّ تتابعت أهل اليمن على الإسلام، وقال رسول الله: نِعْمَ الحيّ همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد، وفيهم أبدال وفيهم أوتاد الإسلام.

إسلام ربيعة العنسيّ
وممّا يعزّزُ ما ذكرناه كيفيّةُ إسلام ربيعة العنسيّ على مَا رَوَاهُ الهيثميّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَبِيعَةَ بنِ رواءٍ الْعَنْسِيِّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يَتَعَشَّى فَدَعَاهُ إِلَى الْعِشَاءِ فَأَكَلَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ: أَتَشَهَّد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ؟ 
 قَالَ رَبِيعَةُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ. 
 قَالَ: أَ رَاغِباً أَمْ رَاهِباً؟
قَالَ رَبِيعَةُ: أَمَّا الرَّغْبَةُ فَوَاللَّهِ مَا هِيَ فِي يَدِكَ ، وَ أَمَّا الرَّهْبَةُ فَوَاللَّهِ إِنَّا بِبِلَادٍ لَا تَبْلُغُنا جيوشُكَ وَ لَا خَيْولك وَ لَكِنِّي خُوّفت فَخِفْتُ ، وَ قِيلَ لِي: آمَنَ آمَنْتُ. 
 فَقَالَ النَّبِيُّ: رُبّ خَطِيبٍ مِنْ عَنْس.

المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي


  • المصدر : http://www.surrey-ic.org/subject.php?id=11
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 03 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 05 / 4