لمّا تُوفّي سيّد البطحاء أبو طالب (رضي الله عنه) وتوفّيت السيّدة خديجة (رضي الله عنها) أصبحت حياة الرسول معرّضةً للخطر أكثر من أيّ وقتٍ مضى، حيث قال: (مَا زَالَت قُرَيْشٌ كاعَّةً) حَتَّى مَاتَ عَمّي أَبُو طَالِبٍ ( رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ).
لقد استغلت قريش وفاة أبي طالب (رضوان الله عليه) فصعّدت من إيذائها للنبيّ وكان أبو لهب من أشدّ الناس عداوةً للدّعوة ولصاحبها، فضاقت مكّة على النبيّ واشتدّ به الحال، عندها أذن الله تعالى لنبيّه بالخروج منها ، وروي أنّه بُعَيْد وفاة أبي طالب ، أوحي إليه: أنْ اُخرج منها فقد مَاتَ ناصرُكَ.
فخروج من مكّة متّجهاً إلى بني عامر بن صعصعة ومعه عليّ علیه السلام ثمّ إلى ربيعة ، ثمّ إلى بني شيبان ، ومعه علىّ علیه السلام وأبو بكر، فدعا هذه القبائل الثلاثة إلى الإسلام وإلى نصرة دين الله (جلّ وعلا) ولم يكن الهدف سوى إبلاغ صوت الإسلام من خلال لسان نبيّه مباشرةً كما هو الحال في هجرة الطائف.
ثمّ توجّه إلى الطائف في شوال من السنة العاشرة بعد البعثة ومعه عليّ بن أبي طالب علیه السلام أو زيد بن حارثة ، أو هما معاً. مكث في الطائف عشرة أيّام ، وقيل: أربعين يوماً، فعرض الإسلام على الأشراف والزعماء.
دعوة رؤساء ثقيف إلى الإسلام
وروى ابن إسحاق أنّه بعد وصول النبيّ إلى الطائف اجتمع بثلاثة من رؤساء ثقيف، هم الإخوة عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي دعاهم إلى الله وإلى نصرة الإسلام.
فقال أحدهم: أنا أمْرُط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وَجَدَ الله أحداً غيرك ؟!
وقال الثالث: والله لا أكلّمك أبداً، إنْ كنت رسولاً لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أنْ أكلّمك، فقام عنهم الرسول طالباً منهم كتمان ذلك حتّى لا تشمت به قريش، وتزداد إجراماً وبطشاً بأصحابه.
فلم يقبلوا منه و خافوا على أحداثهم، فطلبوا منه أنْ يخرج عنهم ، وأغروا به سفهاءهم؟ فجلسوا له في الطريق صفين ، يرمونه بالحجارة ، وعليّ علیه السلام أو زيد بن حارثة يدافع عنه ، حتّى شجّ في رأسه.
دعاء النبيّ في الطائف
وبعد أنْ أدّى رسالته وقابلوه بالصدود والإعراض انصرف عنهم فأتى ظلّ شجرة من بستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فصلّى ركعتين ثمّ رفع يده إلى الله تعالى داعياً:
« اللهُمَّ إنِّي أشْكُو إليْكَ ضَعْفَ قَوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وهَوَانِي عَلى النَّاسِ، يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلَى بَعِيدٍ يتَجَهَّمُنِي أو إلى عَدُوَ مَلَّكْتَه أمْرِي، إن لمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي، ولكِن عَافِيَتَكَ هي أوْسَعُ لِي، أَعوُذُ بِنُورِ وجْهِكَ الذِي أشْرَقَتْ بِه الظُلُمَاتُ وصَلُحَ عَلَيهِ أمْرُ الدُّنْيَا والآخِرَة من أنْ تُنْزِلَ بي غَضَبَك، أو تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، و لاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلّا بِكَ ».
وهذا الدعاء يفيض بمضامين الرّحمة والتوكّل وطلب رضى الله تعالى ممّا يؤكّد سلميّة حركته.
إسلام عَدّاس مولى ربيعة
فلمّا رآه ابنا ربيعة شَعَرَا نحوه بالعطف فأمَرَا غلاماً لهما نصرانيّاً اسمه عَدَّاس بأنْ يعطى النبيَّ | قطفاً من العنب ، وضع عدّاس العنب بين يديه| فمدّ يده إليه قائلاً: ( باسم الله ) ثمّ أكل.
سيطرت على عدّاس دهشة بالغة ، إذْ أنَّ سكّان مكّة مشركون يعبدون الأصنام ولم يكن قد بلغه خبر ظهور الإسلام ،أو لم يبلغه تعاليمه، فتعجّب عَدّاس من أين لمحمّد ذكر اسم الله تعالى على الطعام ؟!، فقال: إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فسأله: من أيّ البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال عدّاس: أنا نصرانيّ من أهل نِينَوَى، قال رسول الله: من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى، فسأل النبيّ: وما يُدريك ما يونس بن متَّى؟ أجاب: ذاك أخي، كان نبيّاً وأنا نبيّ ، وبعد حوار أيقن عَدّاس بصدق نبوّة المصطفى فأكبّ على رأسه ويديه ورجليه يقبّلها باكياً.
قال ابن ربيعة لأخيه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك، فلمّا جاء عدّاس صاحا به: ويحك ما هذا؟ أجاب: يا سيّديَّ ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمرٍ لا يعلمه إلّا نبيّ، قالا له بغيظ شديد : ويحك يا عدّاس ، لا يصرفنّك عن دينك، فإنَّ دينك خير من دينه.
إذن هاجر النبيّ إلى الطائف تحاشياً للعنف وللإرهاب والتعسّف الذي مارسه المكيّون ضدّه ، فخرج ماشياً على قدميه خيفةً وخلسةً داعياً إلى الله تعالى ، رافضاً الظلم والإرهاب والاضطهاد الذي كان يمارسه المشركون.
المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي
|